إدارة الشئون الفنية
التفاؤل في حياة المسلم

التفاؤل في حياة المسلم

28 أغسطس 2020

خطبة الجمعة المذاعة والموزعة

بتاريخ 9 من المحرم 1442هـ - الموافق 28 / 8 / 2020م

التَّفَاؤُلُ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا. ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ( [الطلاق: 2، 3].

أَيُّها المُؤْمِنُونَ:

لَقَدْ شَاءَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا دَارَ امْتِحَانٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا تَسْتَقِيمُ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا تَصْفُو مِنَ الْكَدَرِ، فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِيهَا بِينَ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَصَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَسُرُورٍ وَحُزْنٍ، وَأَمَلٍ وَيَأْسٍ، وَتَفَاؤُلٍ وَتَشَاؤُمٍ، غَيْرَ أَنَّ المُؤْمِنَ يُوَاجِهُ شَدَائِدَهَا وَابْتِلَاءَاتِهَا وَيَشُقُّ دُرُوبَهَا وَالتِوَاءَاتِهَا بِالْجِدِّ وَالمُثَابَرَةِ، وَالجَلَدِ وَالمُصَابَرَةِ، يَحْدُوهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللهِ وَيَقِينُهِ بِمَعِيَّةِ مَوْلَاهُ، وَإِرْجَاعُهُ كُلَّ الأُمُورِ إِلَيْهِ مَعَ صِدْقِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤْمِنُ أَوْسَعُ النَّاسِ أَمَلًا وَأَصْدَقُهُمْ تَفَاؤُلًا، وَأَحْسَنُهُمْ عَمَلًا وَأَعْظَمُهُمْ تَوَكُّلًا، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَإِن أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَـرَ، وَإِنِ ادْلَهَمَّتِ الدُّنْيَا بِالْمَصَائِبِ وَالفِتَنِ تَعَلَّقَ بِالرَّجَاءِ، وَإِن مَرِضَ أَمَّلَ العَافِيَةَ وَاسْتَبْشَرَ بِالطُّهْرِ وَالشِّفَاءِ، عَنْ صُهَيْبٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» [أَخْرَجَهُ وَمُسْلِمٌ].

يُحَبِّبُ إِلَيْهِ الدَّوَاءَ المُرَّ: تَفَاؤُلُهُ فِي الشِّفَاءِ وَالطُّهْرِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَطَاعَةِ مَوْلَاهُ: أَمَلُهُ فِي الفَوْزِ بِجَنَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَيَبْعَثُهُ طَلَبُ العِلْمِ إِلَى الجِدِّ وَالمُثَابَرَةِ: أَمَلُهُ بِالتَّفَوُّقِ وَالنَّجَاحِ، وَيَدْفَعُهُ لِلسَّفَرِ وَالمُخَاطَرَةِ: رَجَاؤُهُ بِالْغَنِيمَةِ وَالأَرْبَاحِ، وَيُحَفِّزُهُ إِلَى الشَّجَاعَةِ وَالِاسْتِبْسَالِ: أَمَلُهُ فِي الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ.

مَعْشَر المُسْلِمِينَ:

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ r أَكْثَرَ النَّاسِ تَفَاؤُلًا وَأَعْدَمَهُمْ تَشَاؤُمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حُسْنَ ظَنٍّ بِرَبِّهِ تَعَالَى، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى أَقْدَارِهِ وَأَعْظَمَهُمْ لَهُ خَشْيَةً وَإِجْلَالًا، وَلَقَدْ كَانَ يُعْجِبُهُ الفَأْلُ الْحَسَنُ الجَمِيلُ، وَيَكْرَهُ التَّشَاؤُمَ وَيَنْهَى عَنْهُ بِالْفِعْلِ وَالقِيلِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» قِيلَ: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

وَحِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ الطَّلَبُ أَيَّامَ هِجْرَتِهِ الشَّرِيفَةِ وَوَقَفَ المُشْرِكُونَ فَوْقَ رُؤُوسِهِمَا؛ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَهُمَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ؛ جَعَلَ r يَقُولُ بِقَلْبٍ يَمْلَؤُهُ اليَقِينُ وَبِلِسَانٍ مُفْعَمٍ بِالثِّقَةِ بِرَبِّ العَالَمِينَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].

وَهَكَذَا أَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا صَابِرِينَ مُحْتَسِبِينَ، شَاكِرِينَ مُقِرِّينَ بِالْفَضْلِ لِرَبِّ العَالَمِينَ، مُتَفَائِلِينَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَمُسْتَبْشِرِينَ بِجَمِيلِ الْعَاقِبَةِ وَبُلُوغِ الْغَايَةِ، فَهَذَا نَبِيُّ اللهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا وَلَمْ يُرْزَقْ بَعْدُ بِوَلَدٍ، لَكِنَّ تَفَاؤُلَهُ بِاللهِ كَانَ عَظِيمًا، وَحُسْنَ ظَنِّهِ بِهِ كَانَ كَبِيرًا، فَدَعَا وَأَمَّلَ )رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ  ( [الصَّافات:100]، فَوَهَبَهُ اللهُ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ فُؤَادُهُ )فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ( [الصَّافات:101]. وَمِثْلُهُ فِي هَذَا نَبِيُّ اللهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:

 وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدَ يُوسُفَ وَأَخَوَيْهِ، فَلَمْ يَقْنَطْ لَهُ قَلْبٌ وَلَا سَرَى إِلَيْهِ يَأْسٌ، بَلْ صَبَـرَ وَأَمَّلَ وَرَجَا وَقَالَ: ) فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ  ( [يوسف:83] فَرَدَّهُمُ اللهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُمْ بَينَ يَدَيْهِ.

وَأَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبَرَ عَلَى البَلَاءِ مِنَ المَرَضِ وَفَقْدِ المَالِ وَالوَلَدِ سِنِينَ طَويلةً، وَلَمْ يُخَيِّبِ اللهُ لَهُ رَجَاءً وَلَا تَرَكَهُ فِي شِدَّةِ البَلَاءِ، )وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ   ( [الأنبياء:83-84].

فَمَا أَجْمَلَ الرَّجَاءَ! وَمَا أَعْظَمَ التَّفَاؤُلَ! وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ القَائِلُ:

أُعلِّلُ النَّفْسَ بِالآمَالِ أَرْقُبُهَا          مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَولَا فُسْحَةُ الأمَلِ

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ أَعْمَالَنَا الصَّالِحَةَ فِي رِضَاكَ، وَاجْعَلْنَا مِن أَهْلِ اليَقِينِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّفَاؤُلِ، وَجَنِّبْنَا اليَأْسَ وَالتَّشَاؤُمَ وَالتَّوَاكُلَ.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِن فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.

عِبادَ اللهِ:

إِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمَلِ لَا تَأْتِي مِنْ فَرَاغٍ، كَمَا أَنَّ التَّفَاؤُلَ لَا يَنْشَأُ مِنْ عَدَمٍ، وَإِنَّمَا يَنْبُعَانِ مِنَ الْإيمَانِ الْعَمِيقِ بِاللهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَالْمَعْرِفَةِ بِسَنَنِهِ وَنَوَامِيسِهِ فِي الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَحْظَى النَّاسِ بِهِمَا أهْلُ التَّوْحِيدِ وَالْإيمَانِ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْهُمَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ. وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُتَفَائِلِ الَّذِي يَعِيشُ السَّعَادَةَ وَالسُّرُورَ وَالْهَنَاءَ، وَبَيْنَ الْفَاجِرِ الْمُتَشَائِمِ الَّذِي لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا الظَّلَامَ وَالتَّعَاسَةَ وَالشَّقَاءَ.

أَلَا وَإِنَّ تَفَاؤُلَ الْمُؤْمِنِ وَاسْتِبْشَارَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حَالِهِ إِذَا مَرِضَ أَنْ يَتَفَاءَلَ بِالشِّفَاءِ، وَإِذَا ابْتُلِيَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَإِذَا أَعْسَرَ لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاؤُهُ فِي تَبَدُّلِ الْعُسْرِ إِلَى يُسْرٍ، بَلْ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى وَأَرْجَى، أَلَا تَرَى إِلَى النَّبِيِّ r الَّذِي أَشْرَقَتْ نَفْسُهُ بِالتَّفَاؤُلِ فِي أَصْعَبِ الْمَوَاقِفِ وَأَحْلَكِ الظُّروفِ وَقَدْ تَجَمَّعَتِ الْأحْزَابُ وَتَكَالَبَتِ الْعَرَبُ، وَأَعْلَنَ عَنْ حِقدِهِمُ الْيَهُودُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَرَمَوْهُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ! يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِفَتْحِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَفَارِسَ [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ].

فَأَمِّلُوا وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَإِنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الأَبْدَانِ، وَالأَمْنَ فِي الأَوْطَانِ، وَالرَّحْمَةَ بِالأَهْلِ وَالإِخْوَانِ، وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا لِهُدَاكَ، وَاجَعَلْ أعْمَالَهُ فِي رِضَاكَ، وأَلْبِسْهُ ثَوبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيةِ، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْ نَائِبَهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ الأَمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِناصِيَتِهِ لِلبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الرقعي - قطاع المساجد - مبنى تدريب الأئمة والمؤذنين - الدور الثاني